بدأت فكرة برنامج "منشآت عملاقة" قبل نحو عامين، حيث كانت المناقشات تجري بين إدارة المحطة الفضائية ( (National Geographic وشركة بارلو البريطانية للإنتاج (Barlow Production) ، مع الاستعانة بخبرات نخبة من خبراء العمارة والإنشاء لاختيار القائمة.
بدأت عملية التنفيذ بوضع معايير واضحة للمنشأ العملاق، وكان من أهمها مكنون النظام الإنشائي التقني، والقالب المعماري، بحيث تم تعريف المنشأ العملاق على انه "ذلك الصرح المعماري الذي احتوى على تجربة معمارية إنسانية متميزة، تمثلت فيها روائع التقنية الإنشائية كإسناد لأنماط معمارية مرتبطة مع بعضها لتشكل نسيج بناء بطابع صرحي(Monumentality) ، سماته المفردة المعمارية الخارقة الملتصقة بالذاكرة". وحيث أن المنافسة وعملية الاختيار كانت حاسمة وبحاجة إلى تقديم ما يثبت أحقية المنشأ في اختياره دون غيره، فقد قدمت كتابي "كيف بنيت البتراء", كدراسة متخصصة توضح تقنيات الإنشاء للأبنية الحرة المنحوتة في البتراء، في سبيل توضيح مطابقة الصروح المعمارية النبطية للمعايير سالفة الذكر، وكشاهد لجدارة البتراء بما تحتويه لأن تقدم كمنشأ عملاق.
زهت البتراء بتقديمها كإحدى هذه المنشات الستة بحلتها الجميلة المطرزة، والفضل بطبيعة الحال يعود لأيادي العرب الأنباط الذين لم يبخلوا في نحتها وتشكيلها على النسق المعماري، الذي تتوارى إليه كل أفئدة وأهداب عيون أساطين العمارة في العالم الحديث. إن هذا التقديم للبتراء هو تأكيد لما حاولت الإشارة إليه في مقالتي السابقة"القيمة المعمارية والإنشائية لمدينة البتراء"، بأن البتراء هي عاصمة الزمان، وسيدة العمارة، وفن النحت، ورائعة العصر الحديث، وأنها ستبقى مناراً وضاءً في أرجاء كوكبنا الأرضي، ليست لأنها واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة فحسب، بل لأنها مكان السحر لذاكرة حية لا تنضب سخية بنماذج معمارية ذات تشكيلات هندسية بديعة قل مثيلها في التاريخ.
لا زالت البتراء وستبقى مدينة خالدة تستقطب أشعة الشمس والطاقة الخفية لتخومها الطبيعية؛ فقد قامت على ملتقى الطرق العريقة للشرق الأدنى في الأردن الحديث، ولا زالت عمائرها مليئة بعبق الحضارة المرسوم بخلاصة الروح كالوشم بين أطياف ذلك النور الوردي الذي يعبق أثيره مساحات تفاخر بوجودها الزمان والمكان. وتباهي الحضارات الأخرى على اختلاف أمكنتها وأزمانها بأنها مولودة عاصمة عظيمة ومخطوطة عريقة اسمها "البتراء".
البتراء كلمة يونانية تعني "الحجر". وكانت تقع عند ملتقى العديد من الطرق التجارية، مما جعلها تغدق بالثراء على كل من استوطنها واستطاع تحمل حرارتها وجفاف رمالها. وخلافاً لما كان متوقعاً، فقد أطلق التجار الأثرياء المعروفون ب "الأنباط" صهيلاً شرقيا صحراوياً مزدهراً في البتراء في القرن الأول قبل الميلاد، في منطقة محدودة الموارد، وقد نجح الأنباط في استغلال المطر الذي ينهمر في كل عام، وتدبروا كل السبل لتوفير المياه لأكثر من 50.000 نسمة من السكان الأنباط باستخدام نظام متقدم من الأنابيب الفخارية والشبكات الهيدروليكية المائية.
وقد برع الأنباط في استغلال المزايا الجغرافية الطبيعية للبتراء، حيث تشهد العمارة فيها على قدرة الإنسان الخلاقة في ترويض أكثر البيئات قسوة ووحشية. واعتزت المملكة النبطية باستقلالية هويتها المعمارية بقيامها على نظرية احترام المكان معمارياً، والاعتماد على محاكاة روحه، وإعادة تشكيله إبداعيا؛ وكان تميز المدرسة المعمارية النبطية أساسه الفهم الدقيق لطبيعة البيئة التي اختارها الأنباط ليبثوا فيها عجائب فنونهم، لتعبر عن المكانة والمعرفة التي توصلوا إليها، ولتجسد مستوى حضارتهم، وتعكس امتلاكهم لركائز العمارة الثلاث: القوة والمال والعلم. في ذاك المكان نسج الإنسان النبطي خيوط أسطورته المعمارية: أدواح وأكمات، وهياكل شامخة، وأضرحة ملكية باذخة، وقاعات ومسارح واسعة, وقنوات ماء ونوافير, وقصور ودروب، وأسواق وبوابات، ولم يرد الإنسان النبطي العظيم إلا أن يكون معمارياً وفناناً متميزاً في تشكليها؛ فبالإضافة إلى الأبنية الحرة، فقد أبدعوا في تشكيل العمائر المنحوتة، البارزة منها والغائرة، وبخطوطها الحادة وصفاء سحرها على واجهة بديعة من الصخر المتوهج، وأضافوا كذلك نمطاً فريداً يجمع بين البناء المنحوت والحر، كتقنية جديدة أبرزتها قدرة النحات النبطي على التكيف مع ظروف المكان لأستدامة العيش. وقد بنى الأنباط صرحًا في موقع البتراء يظهر درجة عالية من الفهم والتخيل الفني والتطبيق التقني؛ فقد أدركوا جيدًا الآفاق التي يبتغون من خلال تقنية بنائهم الوصول إليها؛ فقد عرفوا مثلاً معرفة دقيقة الاتساع المطلوب لحفر نفق لا يزال يحمل آلاف الأطنان من الصخور التي تعلوه حتى الآن.
إن تميز مدينة البتراء عن غيرها من المدن المطروحة في البرنامج المذكور، هو احتواؤها عدداً هائلاً من الصروح المعمارية المنحوتة في الصخر, ويعتبر مبنى الخزنة هو أكثر مبانيها روعة وجمالا ودقة هندسيه، وبارتفاعه الشاهق, وهو محفور في قطعة صخرية واحدة من الحجر الرملي، وقد استلزم نحت هذا التكوين المعماري الساحر مهارة وسعة حيلة في الهندسة, والدافع لهذا التكوين هو الإصرار على استخراج عظمة المكان بالصبر، و بالفكر الهندسي الفني الخلاق.
لقد بقي إنشاء المعماري النبطي للخزنة لغزاً لعدة قرون. وتبحث الاكتشافات العظيمة المقدمة في كتاب " كيف بنيت البتراء" على دلائل مهمة على الطبيعة التقنية للنحت من حيث تقسيم العمل إلى مراحل رئيسية: أولها البدء بتحقيق الوصولية إلى أعلى المنشأة، وثانيها القطع في الصخر للحصول على المنصة الحاملة على طول الواجهة، وثالثها مرحلة التشذيب والتنعيم للحصول على سطح مستو عمودي، وأخيرا العودة للأعلى والوقوف على النصف الباقي من المنصة، والبدء بما تطوله اليد باستخراج التفاصيل المعمارية المخطط لها مسبقا وعلى مراحل دقيقة لا مجال فيها للخطأ. وهذا ما تم عرضه في البرنامج التلفزيوني من خلال الإجابة على أسئلة متعددة قدمتها في المقالة السابقة، وجميعها يبحث في أصل تكنولوجيا النحت، وذلك بمناقشة وتحليل هذه التساؤلات وغيرها من خلال أدلة وبراهين ثابتة موجودة في الموقع.
وقد خلص البرنامج، كما ورد في كتاب" كيف بنيت البتراء" إلى أن المعماريين الأنباط قد طوروا وعدلوا هذه التقنيات، بحيث تتناسب مع خصائص مواد البناء المتوفرة لديهم وأهمها الحجر الرملي، وإن عملية التطوير هذه أدت بالبنائين والنحاتين الأنباط إلى التوصل إلى استخدام تكنولوجيا إنشاء تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ. وأكد البرنامج التلفزيوني أيضاً على أن المعماريين الأنباط قد أبدعوا في استنباط التكنولوجيا الإنشائية المتميزة الخاصة بهم، كما هو الحال المثبت في عملية استخلاصهم وتكوينهم للطراز المعماري.
وبالتعاون مع المهندس الإنشائي البريطاني ايد ماكين(Ed McCann) تم توضيح النظريات والابتكارات المعمارية جلياً من خلال براعتهم في وسائل النحت العمودي ولارتفاعات شاهقة، وذلك باستخدام وسائل حاسوبية للرسم الثلاثي الأبعاد. وقد ساعدت هذه الوسائل توضيح استخدام النحاتين الأنباط للنواصب والمنصات المنحوتة، لكي ينتصروا على صعوبة ظروف المكان، ضمن إدارة هندسية تضمنت برنامجاً فنياً متكاملاً فيه رؤى واستشراف، تحثنا جميعاً لاستقرائها واكتشاف أسرارها، كي نحذوا حذوها، وننحوا معمارياً منحاها. وبهذا فقد تم إبطال المفهوم الشائع باستخدام المنصات الخشبية في العمارة النبطية؛ فقد استثمر النحات النبطي المنتج من الحجارة في العمائر المنحوتة ليصار إلى استخدامه في الأبنية المشيدة، لتعطي دليلاً واضحاً على الخبرة والحكمة في استثمار مواد الإنشاء وإدارة الوقت.
لقد تقدمت البتراء مرة أخرى، ووضعت نفسها في مصاف المنشآت العملاقة في العالم كأهرامات مصر، ومنشآت أثينا اليونانية، وروما الايطالية، وغيرها من المواقع العالمية. وانهالت الاتصالات من الداخل والخارج معبرة عن رغبة شديدة لزيارة المكان لمشاهدة عظمة التقنية ودقة التنفيذ. وليس غريبا, فأن هذا الاختيار وبثه كبرنامج على قناة تلفزيونية عالمية لها شهرتها الواسعة في العالم، إنما يعد قاعدة ترويجية واسعة تزيد حتما من عدد الزائرين الراغبين استكشاف عظمة أسرار المكان، ويقابل هذا صهيلاً من البتراء بأنها ستبقى القيمة المعمارية والإنشائية، وذات تفرد إبداعي محلياً وعالمياً على طول الزمان وامتداد المكان.
واحتراما منا لهذه القيم، وبمناسبة روعة الاختيار لهذا المنشأ، فأكرر هنا ما كتبته يوم فوز البتراء كواحدة من عجائب الدنيا السبعة، بأنه لزاماً علينا أن نحافظ على ما تحتويه هذه المدينة العجيبة من تراث حضاري عظيم، وذلك من خلال وضع آليات ووسائل واضحة الأهداف، ضمن برنامج زمني مجدول جوهره المحافظة على التشكيلات المنحوتة، لكي تبقى زاهية لا فريسة لعوامل الحت والتعرية والدمار. وهي تتطلب منا، بالإضافة إلى الجهود الخيرة المبذولة من القائمين على الترويج للبتراء وإدارة المكان والحفاظ عليه، أن نركز جل اهتمامنا على تطوير أداء المنتج السياحي، وتطوير النسيج الحضري والعمراني لمحيط موقع البتراء الأثري، ليصل إلى مستوى عالي يضاهي مستوى الحدث.