مبدأ العلّية مبدأ عام لا يقبل التخصيص والاستثناء ، وموضوعه جيمع الظواهر التي تكون حادثة أو ممكنة الوجود ، فلكل حادث علّة ولابدّ لكل موجود ممكن الوجود من علة .
والظواهر الاجتماعية كالظواهر الطبيعية ، لا يمكن أن تستغني عن علل مسانخة لها .
وبهذ تخضع جميع الظواهر الاجتماعية لمبدأ العلية ، ولا تشذّ أية ظاهرة اجتماعية عن هذا المبدأ .
ب ـ مبدأ العلّية والسنن الاجتماعية :
إذا آمنا بخضوع ظاهرة ما لمبدأ العلية ، كان معناه أنه كلما وجدت العلة وجد المعلول ، وكلما وجدنا المعلول علمنا بأن له علّة ، وبهذا نحصل على مجموعة من السنن الموضوعية ، والقوانين المطردة بالنسبة لجميع الظواهر طبيعية كانت أم اجتماعية .
وإذا آمنا بوجود مركب حقيقي يسمّى بالمجتمع ، وهو بالرغم من تكوّنه من الافراد يحمل خصائص تميّزه عن الافراد ، كما أوضحنا ذلك في عمل الفرد وعمل المجتمع ، وكما لاحظنا هذا الفرق في تعريف المجتمع أيضاً ، نضطر للايمان عقلياً بوجود سنن وقوانين تخصّ المجتمع وترتبط بحركته ، وعلى أساس هذه السنن يمكن تحليل رقي الامم وسقوطها ، كما يمكن التنبؤ بمستقبل أمة صعوداً وهبوطاً ، وموتاً وحياة .
ج ـ أنواع التعبير القرآني عن السنن الاجتماعية
1 ـ التصريح العام بوجود سنن اجتماعية (دلالة مطابقية) . قال تعالى : (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)( 40 ) ، فقد أضيف الاجل إلى الوجود المجموعي للناس ، وهو غير أجل الافراد الذين تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم أفراداً ، بينما هم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، فيكون لها أجل جماعي واحد( 41 ) .
هكذا استشف الشهيد الصدر ، والاوضح من هذه دلالة ماجاء في الايتين 77 من سورة الاسراء ، و 34 من سورة الانعام .
2 ـ التصريح بمصاديق السنن الاجتماعية (دلالة تضمنيّة) ، وذلك مثل :
أ ـ سنة آجال الامم التي جاءت في الموارد التالية : يوسف : 49 ، و الحجر : 4 ـ 5 ، والمؤمنون : 43، والاعراف : 185، والكهف : 58، وفاطر: 45 .
ب ـ سنة شمول العقاب الدنيوي لجميع أفراد المجتمع الظالم . راجع الانفال : 25.
جـ ـ سنة تبعية التغيير في البناء العلوي في المجتمع للتغيير في المحتوى الداخلي لافراد ذلك المجتمع . راجع الرعد : 11 ، والانفال : 53 .
د ـ سنة معارضة المترفين لحركة التغيير الاجتماعي بواسطة الانبياء . راجع سبأ : 34 ـ 35 .
هـ ـ سنة انهيار المجتمع من خلال تسلّط المترفين على مقاليد الامور . راجع الاسراء : 16 .
و ـ سنة تبعية وفرة الانتاج المادي لاستقامة أفراد المجتمع . راجع الاعراف : 96 ، والمائدة : 66 ، والجن : 16 .
ز ـ سنة التدافع في الحياة الانسانية. راجع البقرة: 251، والحج:40.
حـ ـ سنة الاختلاف بين أبناء آدم . راجع تفسير قوله تعالى : (ولا يزالون مختلفين * إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم)( 42 ) .
ط ـ سنة تراكم الخبائث وانهيار المجتمع . راجع الانفال : 37 ، وهكذا سببية الظلم لانهيار المجتمع ، راجع الحج : 46 .
وهناك سنن أخرى نعرفها من خلال مراجعة الايات 34 من سورة الانعام ، و 76 من سورة الاسراء ، و 43 من سورة فاطر ، و 23 من سورة الفتح ، و 214 من سورة البقرة .
3 ـ الايات التي دلت على الاعتبار بالتاريخ ، والتدبر في حوادث التاريخ ، فإن الاعتبار لن يتحقق ما لم تكن هناك سنن يمكن اكتشافها، والاستفادة منها في الحياة الاجتماعية للانسان المتدبر ، والمجتمع الذي يريد الاعتبار بسلوك المجتمعات السالفة وعواقب سولكها .
راجع الايات التالية : 10 من سورة محمد ، و 109 من سورة يوسف ، و 46 من سورة الحج ، و 37 من سورة ق .
وهكذا أكد القرآن الكريم أن للساحة التاريخية وللمجتمعات البشرية سنناً وضوابط ، كما توجد ضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى . ويعتبر هذا المفهوم فتحاً قرآنياً فريداً فيما نعلم( 43 ) .
وقد قاوم القرآن النظرة العفوية أو الغيبية الاستسلامية لتفسير الحوادث ، فأصر على وجود السنن وعلى إمكان اكتشافها ، وهدى إلى كيفية اكتشافها وكيفية توظيفها للاستفادة منها .
د ـ خصائص السنن الاجتماعية
وتمتاز السنن الاجتماعية بما يلي :
1 ـ الاطراد والموضوعية ، بمعنى أنها لا تجري على أساس الصدفة ، بل هي قوانين عامة لا تتخلف في الحالات الطبيعية ، إلاّ إذا خضعت لسنة أخرى ذات طابع موضوعي ايضاً ; فإذا اجتمعت شروط الاحراق للنار كانت محرقة ، وإذا كانت النار مشتعلة ووجدناها لا تُحرق ، علمنا أن ذلك لعلة أيضاً ، وهي وجود حائل بين النار وما هو قابل للاحتراق مثلاً . وهكذا يقال عن البلاء النازل على أمة إذا توفرت أسبابه ، وإنما يرتفع هذا البلاء حينما يزول أحد أسبابه، أو يتوفر شرط آخر لسنّة أخرى تكون اعم من هذه السنة ، فتخضع الظاهرة الاجتماعية للسنة الاعم حينئذ ، فلا تشذ عن ميدان السُنن . قال تعالى : (ولن تجد لسُنّة اللّه تبديلا)( 44 ) ، وقال أيضاً : (لا مبدّل لكلمات اللّه)( 45 ) .
والقرآن يؤكد على هذا الطابع الموضوعي والعلمي للسنن الاجتماعية ، ويعلّم الانسان كيفية اكتشاف السنن ، وكيفية توظيفها للاستفادة منها في مسيرة التكامل الانسانية ، ومسيرة التربية الواقعية .
2 ـ الربانيّة ، فكل سنة هي كلمة اللّه ، وهي قرار رباني ، واللّه هو من وراء هذه السنن ، وهو الذي سنّ هذا السنن ، فالساحة الاجتماعية بالرغم من خضوعها لسنن موضوعية ، هي في قبضة اللّه وتحت قدرته وارداته ، من دون أن يقع الانسان في اتجاه لاهوتي يتغافل فيه عن الجانب العلمي والموضوعي للسنن ، والاتجاه اللاهوتي يقطع صلة الحادثة ببقية الحوادث ، ويجعل ارتباطها باللّه بديلاً عن العلاقات التي تزخر بها الساحة الاجتماعية ، بينما القرآن الكريم لا ينتزع الحادثة من سياقها ليربطها بالسماء ، بل إنه يربط أوجه العلاقات كلها باللّه ، ويعتبر كل ذلك تعبيراً عن كلمة اللّه وحسن تقديره وبنائه التكويني .
3 ـ الانسانية ، بمعنى أن السنن الاجتماعية ميدانها المجتمع الانساني ، ولا تعمل بمعزل عن الانسان وارادته واختياره ، فمنها ما يوجّه ارادة الانسان ، ومنها ما يكون في طول اختياره ، كما سوف يتضح ذلك في انواع السنن الاجتماعية ، حيث تكون السنن المشروطة والموضوعية في طول ارادة الانسان واختياره ، فهي لا تتصادم مع ارادة الانسان ، ولا تعمل خارج حدود اختياره . قال تعالى : (إن اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)( 46 ) .
هـ ـ أنواع السنن الاجتماعية
يمكن تقسيم السنن الاجتماعية التي كشف عنها القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع أو أشكال :
1 ـ السنن المشروطة .
2 ـ السنن المطلقة .
3 ـ السنن الموضوعية .
ترتبط السنن المشروطة بشروط ينبغي تحققها لتحقق تلك النتائج، وتكوم محتومة حينئذ ، مثل ما جاء في قوله تعالى : (إن تنصروا اللّه ينصركم ويثبت أقدامكم)( 47 ) ، ومافي قوله تعالى : (ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب)( 48 ) .
والسنن الشرطية ترتبط دائماً بارادة الانسان ; باعتبار أن اختيار الشرط بيد الانسان نفسه .
أما السنن التي لا ترتبط بشروط لتحققها ، بل تكون على شكل قضية ناجزة ، فهي سنن مطلقة ، مثل سنة الرحمة الالهية ، وسنة اختيار الانسان ، وسنة التكامل الاختياري للانسان ، وسنة الاختيار الدائم ، وسنة الاختلاف في القدرات بين أفراد المجتمع ، وسنة الهداية الالهية للمجتمعات البشرية ، فهذه سنن عامة لا تشذ عنها المجتمعات البشرية . قال تعالى : (ورحمتي وسعت كل شيء)( 49 ) ، و (أن ليس للانسان إلاّ ما سعى)( 50 ) ، و (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً)( 51 ) ، و (نبلوكم بالشر والخير فتنة)( 52 ) ، و (إن علينا لَلهدى)( 53 ) ، و (هديناه النجدين)( 54 ) ، و (لولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض)( 55 ) .
والسنن المشروطة تقبل التحدي والخروج عليها ، بينما السنن المطلقة لا تقبل التحدي والخروج عليها .
وأما السنن الموضوعية فهي السنن التي تقبل التحدي على المدى القصير ، ولا تقبل التحدي على المدى البعيد ، وهي تمثّل اتجاهاً طبيعياً في مجال الانسان والمجتمع ، وليست على صورة قانون صارم لا يقبل التحدي أصلاً . ويمكن الاستشهاد للسنن الموضوعية بسُنّة الدين في المجتمع البشري ، وسنة النكاح ، وسنة قيام الرجل على المرأة . قال تعالى : (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيّم ولكن اكثر الناس لا يعلمون)( 56 ) .
و ـ العلاقة بين أنواع السنن الاجتماعية
يمكن تصنيف السنن الاجتماعية من حيث العموم والخصوص ، فبعض السنن يكون شاملاً شمولاً تاماً لجميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، مثل سنة الرحمة الالهية : (ورحمتي وسعت كل شيء)( 57 ) ، وسنة الهداية الالهية : (الذي خلق فسوّى * والذي قدّر فهدى)( 58 ) .
وبعض السنن تعم الانسان فقط ، مثل سنّة الاختيار ، والمسؤولية، وأن السعي الاختياري هو طريق الكمال ، وسنّة الاختلاف في الطاقات والاستعدادات ، وسنّة التدافع ، وسنّة الامتحان والاختبار .
فالقسم الاول هو السنن الاعم والاشمل مورداً وموضوعاً ، والقسم الثاني يختص بالانسان ويعم كل أفراده .
وهناك سنن تخص بعض افراد الانسان ، مثل سنة العصمة والاعجاز للانبياء من أفراد الانسان ، وهي سنن مطلقة أيضاً ، ويمكن تسميتها بالسنن الخاصة في قبال العامة والاعم .
وتحت ظل السنن الخاصة قد تكون هناك سنن أخص ، حينما تكون مشروطة بشروط خاصة ، فنجاح الانبياء ونجاتهم مقرون بصبرهم وجهادهم .
ز ـ الارادة الانسانية والسنن الاجتماعية
فالسنن المطلقة هي التي لا يمكن تخطّيها والتخلف عنها في جميع الظروف ، فهي تفوق الارادة والاختيار ، بينما السنن المشروطة والموضوعية لا تتنافى مع الارادة والاختيار ، بل تكون مشروطة بما يختاره الانسان من حيث توفيره للشرط المأخوذ في موضوعها .