القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه
قصة أصحاب قرية أنطاكية
بعض ءايات من قدرة الله عز وجل
تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى
إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة
جزاء الأبرار المتقين
جزاء المجرمين الأشقياء
إثبات وجود الله ووحدانيته
إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة يس مكية وقد تناولت مواضيع أساسية ثلاثة وهي: "الإِيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين".
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم تحدثت عن كفار قريش، الذين تمادوا في الغي والضلال، وكذبوا سيد الرسل محمد بن عبد الله، فحقَّ عليهم عذاب الله وانتقامه.
* ثم ساقت قصة أهل القرية "أنطاكية" الذين كذبوا الرسل، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، على طريقة القرآن في استخدام القصص للعظة والاعتبار.
* وذكرت موقف الداعية المؤمن "حبيب النَّجار" الذي نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة، ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار.
* وتحدثت السورة عن دلائل القدرة والواحدانية، في هذا الكون العجيب، بدءاً من مشهد الأرض الجرداء تدب فيها الحياة، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار، فإِذا هو ظلامٌ دامسٌ، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلكٍ لا تتخطاه، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله جل وعلا.
* وتحدثت عن القيامة وأهوالها، وعن نفخة البعث والنشور، التي يقوم الناس فيها من القبور، وعن أهل الجنة وأهل النار، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب، حتى يستقر السعداء في روضات النعيم، والأشقياء في دركات الجحيم.
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع "البعث والجزاء"، وأقامت الأدلة والبراهين على حدوثه.
التسميَة:
سميت السورة "سورة يس" لأن الله تعالى افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.
فضلهَا:
قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء قلباً وقلبُ القرآن يس، ووَدِدْتُ أنها في قلب كل إنسانٍ من أمتي).
القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه
{يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(3)عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6)لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7)إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9)وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10)إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12)}
سبب النزول:
نزول الآية (1-7):
{يس * والقرآن الحكيم}: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عُمْي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (8):
{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً}: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمداً لأفعلن، فأنزل الله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله: {لا يبصرون} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الاية (12):
{إنا نحن نحي الموتى}: أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النُّقْلَة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تُكْتبُ، فلا تنتقلوا". وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
{يس} الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله، وقال ابن عباس: معنى "يس" يا إنسان في لغة طيء، وقيل: هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله بعده {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} وقيل معناه: يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق {وَالْقرْآنِ الْحَكِيمِ} قسم من الله تعالى بالقرآن، والحكيم معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان، قال القرطبي: أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل، وقال أبو السعود: أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجزُ، المنطوي على بدائع الحكم .. والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمداً رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المبعوثين من رب العالمين لهداية الخلق، قال ابن عباس: قالت كفار قريش: لست يا محمد مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على طريق ونهج مستقيم، لا انحراف فيه ولا اعوجاج، هو الإِسلام دين الرسل قبلك، الذين جاءوا بالإِيمان والتوحيد، قال الطبري: أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإِسلام كما قال قتادة، والتنكير للتفخيم والتعظيم {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيلٌ من ربّ العزة جل وعلا، العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ} أي لتُحَذِّرَ يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإِنذار تخويفهم من عذاب الله {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإِيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان .. ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإِصرارهم على الكفر والتكذيب فقال {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإِنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإِنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد .. ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإِيمان فقال {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُون} تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه، قال في الجلالين: وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يُذعنون للإِيمان، ولا يخفضون رؤوسهم له، قال ابن كثير: ومعنى الآية: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، واكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إِنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق، وقال أبو السعود: مثَّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم {فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ} أي فالأغلال منتهيةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطأطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيِّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثيل لسدِّ طرق الإِيمان عليهم، بمن سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر {لا يُؤْمِنُونَ} أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إِنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإِيمان، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إِنما ينفع إِنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ} أي وخاف الله دون أن يراه، قال أبو حيان: {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ} أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جل وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى "بالغيب" أي بالخلوة عند مغيب الإِنسان عن عيون البشر {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لما انتفع بالإِنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرةٍ عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم، قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إِنما يكون في الجنة .. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها {وَآثَارَهُمْ} أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال "أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد -والبقاع خالية- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سلمة دياركم تُكتب آثارُكم، دياركم تُكتب آثاركم" فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وكل شيء من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى {يوم ندعو كل أناسٍ بإِمامهم} أي بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ أو شر، وقال مجاهد وقتادة: هو اللوح المحفوظ، وقال أبو حيان: "ونكتب ما قدَّموا" أي ونحصي، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء.
قصة أصحاب قرية أنطاكية
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ(15)قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17)قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25)قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ(31)وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)}
ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية "إنطاكية" التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم، قال القرطبي: وهذه القرية هي "إنطاكية" في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم "صادق" و "مصدوق" و "شمعون" أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل: هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام، قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإِن آمنتم فلكم السعادة، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة، قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ بـ {الْمُبِينُ} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإِرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان، وترك عبادة الأوثان، قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإِنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي لأئنا ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو "حبيب النجار"، قال ابن كثير: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو -حبيب النجار- كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا: نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصه القرآن {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإِنما قال {يَا قَوْمِ} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم، والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إستفهام إنكاري أي كيف اتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلا يُنقِذُونِ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي .. وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة، قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصبَها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي فلمادخل الجنة وعاين ماأكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم، قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، قال أبو السعود: وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وما أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل، فإِذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة، قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قتل "حبيب النجار" غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي يا أسفاً على هولاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان، قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بان يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ بهم مبلغاً عظيماً حيث إنّ كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين. ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.
بعض ءايات من قدرة الله عز وجل
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ(36)وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37)وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41)وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42)وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ(43)إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)}
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض اليابسة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر، قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإِذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا، قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإِخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة في بلدان كثيرة {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم، قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإِيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ "ما" بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي تنزّّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، المختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعلمون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون}. {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي وعلامةٌ أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإِذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن الأصل في الكون هو الظلام والنور عارض وهذا ما أكّده العلم الحديث، فإِذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويُكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي وآيةٌ أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطَّاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقتٍ تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم، قال ابن كثير: وفي قوله تعالى {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإِنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ..) الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرئ {لا مُسْتَقَرَّ لَها} أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإِله العزيز في ملكه، العليم بخلقه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها، فإِذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس، قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءً، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد، قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إِدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء، قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، غير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر -كما قال قتادة: "لكل حدٌ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه"- حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى {وجُمع الشمس والقمر} فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا ءاباءهم الأقدمين -وهم ذرية آدم- في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، قال في التسهيل: وإِنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصى البلدان، وإِنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان، وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم .. بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإِن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخواص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإِلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة يعرفون معنى قوله تعالى {إِلا رَحْمَةً مِنَّا} فسبحان الله القدير الرحيم!!.
تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45)وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(47)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبر هنا عن تعاميهم عن الحق، وإِعراضهم عن الهدى والإِيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات، والمعنى وإِذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال القرطبي: والجواب محذوف والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ..} فاكتفى بهذا عن ذلك {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات الواضحة الدالة على صدق الرسول -كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها- إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء، قال أبو السعود: وإِضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أننفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله، قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإِنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للابتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسْألون}.
إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(48)مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ(49)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51)قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53)فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)}
ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة، فقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً ؟ قال تعالى ردّاً عليهم {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم، قال ابن كثير: وهذه -والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي فلا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك، وفي الحديث: (لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه -أي يصلحه بالطين- فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه فلا يطعمها) ثم تكون هناك النفخة الثانية وهي "نفخة الصَّعق" التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي "نفخة البعث والنشور" التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي ونفخ في الصور فإِذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي، قال الطبري: {يَنسِلُونَ} يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذي أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإِذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون، قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإِذا هم مجموعون في موقف الحساب {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ففي هذا اليوم -يوم القيامة- لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإِنما يُجازى كلٌ بعمله، قال أبو السعود: وهذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.
جزاء الأبرار المتقين
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55)هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ(56)لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ(57)سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ(58)}
ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين، فقال {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم -يوم الجزاء- مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار، قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهمعن كل ما يخطر بالبال، وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهممن أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان الوارفة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي لهم في الجنة فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكه {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإِذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).
جزاء المجرمين الأشقياء
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64)الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66)وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67)وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ(68)}
بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين، انفردوا عنهم وكونوا جانباً، قال القرطبي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وهو توبيخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة، فكيف يطيع الإِنسان عدوه؟ {وَأَنِ اعْبُدُونِي} أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا هو الدين الصحيح، والطريق الحقُّ المستقيم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا} تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين، وأغواهم عن سلوك طريق الحقِّ، قال الطبري: أي صدَّ الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن طاعتي حتى عبدوه {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار.. ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب، فقال {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها، قال الصاوي: هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله {ذقْ إنك أنت العزيز الكريم} ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فقال {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي في هذا اليوم -يوم القيامة- نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم القبيحة، روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال "يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول: أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا، فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته، فإِذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} وفي الحديث (يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه ويقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل) {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي لو شئنا لأعميناهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حينئذٍ؟ قال ابن عباس: المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ، وهو تهديد لقريش {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار بتطاول الأعمار، فقال {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي ومن نُطِل عمره نقلبه في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً، قال قتادة: يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً، والقوة ضعفاً، والزيادة نقصاً {أَفَلا يَعْقِلُونَ}؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إِعمائهم أو مسخهم؟ قال ابن جزي: والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإِنسان إذا هرم.
إثبات وجود الله ووحدانيته
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71)وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ(73)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74)لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ(75)فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)}
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي وما علمنا محمداً الشعر، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً، قال القرطبي: هذا ردٌّ على الكفار في قولهم إِنه شاعر، وإِن ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، والقرآن ليس بشعر، لأن الشعر كلام مزخرف موزون، مبني على خيالات وأوهام واهية، حتى قيل "أعذبه أكذبه" فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر!! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله "الشعر كلامٌ، والكلام منه حسنٌ، ومنه قبيح" {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله جل وعلا لعباده، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة، وهم المؤمنون لأنهم المنتفعون به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به، قال البيضاوي: وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم، أمواتٌ في الحقيقة .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه، وأعاد ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعلا من آثاره، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا -من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين- مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟! {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده!! {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} أي ولهم فيها منافع عديدة -غير الأكل والركوب- كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها {من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم .. ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصرهم بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو إعانة {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعونهم أيَّ نفع، قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً، إِنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام، وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي لا تحزن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد.
إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور
{أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(81)إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83)}
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيُبعث هذا بعدما أرَمَّ؟ قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} إلى آخر السورة.
ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور، فقال {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقيرٍ هو النطفة "المني" الخارج من مخرج النجاسة؟ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق الإِنسان من نطفة، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث؟ قال المفسرون: نزلت في "أُبي بن خلف" جاء بعظم رميم، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً:أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: نعم يبعثك ويدخلك النار {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي وضرب لنا هذا الكافر المثل بالعظم الرميم، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، وجوابه من نفسه حاضر {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي وقال هذا الكافر: من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى، متفتتةٌ متلاشية؟ قال الصاوي: أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة، قادر على الإِعادة {وَهُوَ بِكُلِّ خلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم كيف يخلق ويُبدع، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا} أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقاً جديداً، وقال أبو حيان: ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر، ألا ترى الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار، وفي أمثالهم "في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعُفار" ولقد أحسن القائل:
جمعُ النقيضين من أسرار قدرته هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارُ
{فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي فإِذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}؟ أي أوَليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها؟ {بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي بلى هو القادر على ذلك، فهو الخلاَّق المبدع في الخلق والتكوين، العليم بكل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنون، فمتى أراد تعالى شيئاً أوجَدَه، بدون تعب ولا جهد، ولا كلفة ولا عناء {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإِلهُ العظيم الجليل، الذي بيده المُلك الواسع، والقدرة التامة على كل الأشياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء .. ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع، الدال على كمال القدرة، وعظمةِ الملك والسلطان، الذي تفرد به خالق الأكوان.